الإعجاز النبوي في ذكرعمر النحل
بقلم لقمان ابراهيم القزاز _ باحث في تربية النحل
ما يزال يُطلق على ( النحل ) حتى هذا اليوم لفظ ( ذباب ) في بعض الأوساط الريفية العربية و غير العربية. و لهذا اللفظ في اللغة عدة معانٍ ( 1 ) ، من هذه المعاني ما يدل على حشرات طائرة منها النحل . جاء في تفسير ابن كثير لسورة النحل : قال ابو يعلى الموصلي حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سُكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " عمر الذباب أربعون يوماّ والذباب كله في النار إلا النحل " ( 2 ) . قيل : كونه في النار ليس بعذاب ، إنما ليعذب به أهل النار بوقوعه عليهم .
يُفهم من الحديث الشريف أن المقصود بالذباب هي الحشرات المجنحة الصغيرة الحجم التي تؤذي الإنسان و الحيوان ، وأن النحل صنف ينتمي الى هذا النوع من الأحياء ، و يتميز عنها بسلوك مختلف ينفع الناس فلا يلاقي المصير المذكور . و الحديث يُعدّ ضعيفاً عند بعض رجال الحديث و حسناً او صحيحاً عند آخرين ( 3 )، و لكلٍّ ما يرجع اليه .
علينا أن نتذكر أنّ كلّ ما كان يُعرف عن النحل في عصر الرسالة و ما قبله لا يخرج عن معلومات قليلة مستمدة من النحالين و الأطباء ، تتناول تربية النحل في خلايا محلية ، وانتشارها في الجبال و البراري، و عسلها و أثره في الدواء و الغذاء ، و شمعها الذي غلب إستخدامه في الإضاءة ، وإبرها التي تدافع بها عن نفسها و تلسع بها من يقترب من خليتها من إنسان او حيوان.
دام الحال هكذا حتى القرن العشرين حين تمكن العالمان C. A . Rosch وKarl Von Frisch من الوصول الى معرفة دقائق حياة النحل من خلال دراساتهم و مراقباتهم التي طُبقت على طوائف نحل في خلايا ذات واجهات زجاجية (4) بعد أن تمّ وضع علامات مميزة على عدد منها فور خروجها من نخاريب الحضنة .
لاحظ هؤلاء العلماء أن هناك فرقاّ أساسياّ بين الانسان و النحل في طريقة تقسيم العمل ، ذلك أن الانسان عندما يتخصص بعمل ما فإنه يظل عليه حتى آخرالعمر ، بينما تغير النحلة نشاطها كلما تقدمت في السن ، طِبقاً لخطة ثابتة ، تمارس من خلالها جميع أعمال الطائفة ، تبدأ حياتها عاملة نظافة و تنتهي جامعة غذاء . كما لاحظوا أن حياة النحلة في الأحوال الإعتيادية في موسم وضع البيض و فيض العسل في الربيع و الصيف تشتمل على مرحلتين ، الأولى : تقوم فيها النحل باعمال منزلية داخل الخلية أطلقوا عليها (المرحلة المنزلية ) ، و في الثانية : تمارس أعمالاً خارج الخلية في الحقول أطلقوا عليها ( المرحلة الحقلية ) .
المرحلة المنزلية:
تبدأ المرحلة الأولى منذ أول خروج النحلة من نخروبها ، حيث تكون رطبة الجسم باهتة اللون ، و في خلال ساعات يجف جسمها و يصفو لونها و تباشر نشاطها من اليوم ( 1-3 ) في تنظيف نخاريب الحضنة و صقلها لاستقبال البيض الجديد ، و تنتشر فوق الحضنة تحافظ على
دفئها ، و في الوقت نفسه تمدّ خرطومها الى النحلات الأكبر سناً لمدّها بالعسل .وفي اليوم (4-7)
تتناول غذاءها بنفسها و تلتهم كميات كبيرة من حبوب اللقاح فيكتنز جسمها و تقوم بتغذية كبار اليرقات بالعسل وحبوب اللقاح. و في اليوم (8- 11) تنضج غددها البلعومية و تفرزغذاءً ملكياً تغذي به الملكة و صغار اليرقات . و في اليوم ( 12- 21 ) تضمر غددها البلعومية و تنمو غددها الشمعية فتبني أقراص الشمع ، ثمّ تغطي نخاريب العسل الناضج بطبقة رقيقة من الشمع. و
تكتمل غددها اللعابية فتستلم الرحيق من النحل الحقلية و تعمل على إنضاجه و خزنه في النخاريب الخاصة به . و تعجن حبوب اللقاح بالعسل و تجعلها في نخاريبها على هيئة أقراص بعضها فوق بعض .
وفي هذه الفترة تغادر الخلية بعد الظهر يومياً في (طيران توجيه ) تتدرب فيه على الطيران ، و تتعرف المعالم الخارجية من أشجار و بنايات و مدخل الخلية و موقعها في المنحل ، و تعمل على تنظيف الخلية من الفضلات و النحل الهالكة و الأجسام الغريبة. و قبل ختام هذه المرحلة بثلاثة أيام تقوم بحراسة الخلية ، تنتشر أمام مدخلها لحمايتها من النحل السارقة والزنابير ، و تهاجم من يقترب منها من انسان او حيوان . و بذلك تنتهي المرحلة المنزلية من حياة النحلة و قد استغرقت ثلاثة أسابيع.
المرحلة الحقلية:
تغادر النحل خليتها في بداية الأسبوع الرابع من عمرها، تسرح في الحقول بحثا عن الغذاء،
وقد يمتد طيرانها مسافة ( 8 ) أميال ، تنصرف فئة منها الى جمع الرحيق و أُخرى الى حبوب
اللقاح و ثالثة الى الماء و رابعة الى العِكبِر ( 5 ) ، و لا يُعرف النظام الذي يتمّ بموجبه تحديد هذه الواجبات و توزيعها على الفئات الأربع ، ولكنه يدفع جامعات الرحيق الى أن تتحول الى جمع حبوب اللقاح إذا قلّ فرزالرحيق ( و بالعكس ) دون أن تستسلم للراحة و الإنتظار، فإذا ازداد فرز الرحيق ثانية تعود الى جمعه . و يسمح للشغالة بجمع الرحيق و حبوب اللقاح معاً من زهرة واحدة ، إذا ساعد تركيبها على ذلك ، لتعود الى الخلية محمّلة بوجبة غذاء كامل .
تعيش النحلة هذه المرحلة الشاقة نحو ثلاثة أسابيع ، و يتوقف طول عمرها على ما تبذل من مجهود ضخم و عمل دؤوب يؤدي الى إرهاق و من ثََمّ الى هلاك عددٍ غفير منها و لمّا تكد تتم ّ اسبوعها الثالث ، فضلاً عما تتعرض له في الجوّ من أخطار جسيمة جرّاء انتشار المفترسات من طيور و حشرات . وبذلك لا يتعدى مجموع عمرها ستة أسابيع ، إبتداءً من يوم خروجها من النخروب و إنتهاءً بيوم هلاكها ، و تكون فترة الأربعين يوماً التي ذكرت في الحديث الشريف أسلم تقدير يمكن إعتماده لمعدل عمر النحل . وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وجه الإعجاز :
في الحديث الشريف يحدد الرسول (صلى الله عليه وسلم) عمر النحل بأربعين يوماً ، و هو تحديد واضح و صريح ، تتفق معه النتائج التي توصل اليها البحث العلمي . و المعروف أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن من رجال الدراسات و البحوث ، و لم يسبق له أن راقب النحل و هي تطير من خلاياها و إليها ، و لم تكن المعلومة هذه شائعة في عصره (صلى الله عليه وسلم) و لا قبل ذلك ، بدلالة أن التاريخ لم يذكر أن أحداً من القائمين على تربية النحل او العرّافين او الكهنة زعم أن النحلة تعيش هذا الكمّ من الأيام ، فلا بدّ من أن يكون من وراء هذه الحقيقة العلمية تدبير إلهي يُملي على الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما ينطق به ، ليكون إعجازاً يشهد على صدق حديثه ورسالته ، إن لم يظهر في حينه فإنه باقٍ في ضمير الغيب حتى يأذن الله به .
يُعبّر هذا الإعجاز النبوي عن عمر النحلة في موسم النشاط و العطاء ، حيث يظهر العمل الحقيقي للنحلة و تأثيره البالغ في البيئة و الإنسان ، و ذلك حين تتفتح أنواع الأزهار تملأ الأرجاء طلباً للتلقيح، و تنمو طوائف النحل و تتكاثر ، و يتدفق العسل غزيراً في المناحل ، و يُجمع الغذاء الملكي ويُستخلص السُمّ و يُؤخذ العِكبِر و يُقشط الشمع ، أما فيما عدا ذلك ، حين تشحّ مصادر الغذاء و يتبدل الطقس و تتقلص الحضنة و يقل السروح و حيث لا إرهاقَ و لا نِتاج حينئذ يمكن للنحل أن تمكث في خلاياها أغلب أيام الخريف و الشتاء ، لا يزعجها و يقلل من أعدادها إلا التكوّر الشتوي (6) الذي تسببه شدّة إنخفاض درجات الحرارة في الخارج ، فإذا أقبل الربيع تسلم الأمانة الى الجيل الجديد و تختفي .
الوثيقة مترجمة الى الروسية
الهوامش:
[1] تاج العروس ج 2 ص 419 – 428. ومن معانيها : حافتا السيف . جبل بالمدينة . بقية الشيء . الجنون . نكتة في جوف حدقة الفرس وغيرها .
[2] تفسير ابن كثير لسورة النحل الآية 69 . ج2 ص576 . وتاج العروس ج2 ص422..
[3]ضعّفه ابن عدي في فتح الباري شرح صحيح البخاري ) كتاب الطب ) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3442 ) من حديث أنس t.
[4] يقول القرطبي في تفسير الآية 69 من سورة النحل : قد صنع ارسطاطاليس بيتاً من زجاج لينظر الى كيفية ما تصنع ) النحل ) ، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين ( بالعِكبر ) . ما بين القوسين من الكاتب . وفي هذا إشارة الى قِدم المحاولة..
[5] العِكبِر ( بكسر العين و الباء ) : مادة صمغية تجمعها النحل من براعم الأشجار تُستخدم في عدة أغراض منها : ملء الشقوق في داخل الخلية و صقل النخاريب و تعقيمها و تضييق فتحة المدخل قبل حلول الشتاء ، وفي تحضير بعض الأدوية.
[6] التكوّر الشتوي هو تجمع النحل شتاءً على هيئة عنقود غلافه من نحل رؤوسها متجهة الى الداخل تنخفض فيه درجة الحرارة الى 8 درجات مئوية ، وفي الداخل حيّز تتحرك فيه
النحل : إما أن تجري مسرعة بدون هدف ، أو تهزّ بطونها يمنة و يسرة لرفع درجة الحرارة الى 32 مئوية . ويتبادل الفريقان الداخلي والخارجي الأمكنة باستمرار .
المراجع :
- تاج العروس من جواهر القاموس . محمد مرتضى الزَبيدي . الكويت 1965 .
- تربية النحل وإدارة المناحل . أحمد لطفي عبد السلام . القاهرة 1968 .
- تفسير ابن كثير القرشي . بيروت 1987.
- مختصر تفسير ابن كثير . إختصره أحمد بن شعبان ومحمد بن عيادي . القاهرة 2004 .
- النحل الراقص . كارل فون فريتش . ترجمة أحمد حسن كاشف . سلسلة الألف كتاب . القاهرة 1968 .